تحرّيةٌ متيقظةٌ: حول فن تاوس مخاتشيفا

© حقوق النشر محفوظة للمؤلّف/ة ومتحف الفنون الجميلة في لوزان (MCBA). أُعدَّت النصوص بتكليف من MCBA في إطار المنشور بعنوان Taus Makhacheva 4’224,92cm de Degas (تاوس مخاتشيفا. 4224,92 سم² من ديغا” ed. by Nicole Schweizer, MCBA, Lausanne, 2020, Coll. Espace Projet, n°1, fr./engl، وذلك بمناسبة إقامة معرض (تاوس مخاتشيفا. 4224,92 سم² من ديغا) في MCBA، تقييم نيكول شفايزر، 13 مارس – 23 أغسطس 2020.

 

تحرّيةٌ متيقظةٌ: حول فن تاوس مخاتشيفا
أوزما رِزفي

 

تفترش تاوس مخاتشيفا الصدوع بين مؤسسات الفن والسياسة المعاصرة مسرحًا لعَبَثِها. فكلُّ مشروعٍ من مشاريعها هو مساءلةٌ فذّةٌ ومُتَّسِقَةٌ لما كنّا قد حسبناه من المُسَلّمات، وكأنها زوبعةٌ من الغرابة تَهُبّ لتذَكّرنا بأنّ الأرض ترتَجُّ والجسد يرتجف، وأننا جميعًا توّاقون إلى اللمس. ويمتاز أسلوبها المفاهيمي بخفّة العمل الفني ورشاقته وعَبَثِه في الوقت عينه، ما يُربِكُ المُشاهد المُستغرِق في جوانب المشروع النقدية والسياقية والبحثية الغزيرة. وهذه هي المفارقة التي تُعلي من العمل وترفعه إلى ما يقارب من مرتبة السمو.

فأن يكون العمل ساميًا هو أن لا يصيب معناه.

 

عن عاديّة الهشاشة

عندما يُقابَل المرء بعدم الرضا، يتصلّب الجسد وينقبض. هذا ما نراه في Quantitative Infinity of the Objective (اللانهاية الكمّية للهدف (2019[1]، حيث تتوسّط مجموعةٌ من الرياضيين/ات مساحةً تتوزّع فيها تجهيزاتٌ رياضيةٌ قد تبدو حقيقيةً للعين غير المتخصصة وإنما غريبةً بالنسبة إلى المحترفين/ات. يـ/تواظب المؤدّون/يات على تصويب وضعيات أجسادهم/ن وإعادة تعديلها بما يتلاءم مع التجهيزات والأكسسوارات لتجنّب الوقوع أرضًا. ويردّد التسجيل الصوتي المُصاحب طيلة فترة العرض الأدائي توجيهاتٍ نمطيةٍ تَحِضُّ على التفوّق، ويوجّه للمؤدّين/يات في الوقت عينه ألفاظًا وتعابير سلبية عدوانية تصفهم/ن بأنهم/ن عديمو/ات القيمة. ورغم ذلك، يحافظ المؤدّون/يات على رباطة جأشهم/ن مثابرين/ات على بلوغ التفوّق، في مشهدٍ تدعونا مخاتشيفا لنُعاين من خلاله كيفية أن لا يَحُولُ اعتياد الهشاشة في المجتمع دون تحقيق النجاح.

إن التأديب الاجتماعي كطريقةٍ لبناء الذات هو ممارسةٌ يبدو فيها النظام للوهلة الأولى على أتمّ صورة. ومع ذلك يستشعر المرء فيه خطبًا ما، فيضطرّ جسده إلى التأقلم على الحركة في بيئةٍ تعكس صورة بيئةٍ أخرى غير معدّةٍ لاستقبال هذا الجسد. ومع ذلك، يواصل المرء نهاره. يجسّد كل مؤدٍّ/ية حالة التصلّب الداخلية الضرورية للتمكّن من اجتياز الأداء العادي للحياة، وهي تجربةٌ عالميةٌ في المُعاش اليومي يُدرِكُها الكثيرون من كراتشي إلى محج قلعة.

تُجلي هذه الصيرورات نزعة مخاتشيفا نحو المادية التاريخية، حيث تؤكّد في كلّ مشروعٍ من مشاريعها على السياسات التي تكتنفها الظروف المادية للحياة اليومية. ويتّكئ عمل “اللانهاية الكمّية للهدف” من الناحية المفاهيمية إلى أعمالٍ سابقة من مسيرة مخاتشيفا الفنية. إذ يمكن مطالعة عملها بعنوان Tightrope (الحبل المشدود، 2015)[2] للوقوف على نقدٍ أكثر مباشرةً لعالم الفن ولمجال تاريخ الفن، حيث تَظهَرُ معالم هذا النظام وما يتطلّبه من المرونة والانقباض الجسديين في الوقت عينه. يُبرِزُ هذا العمل هشاشة الذات الاجتماعية (والفنان/ة) ويوجّه النقد للقيمة المخزّنة عبر توثيق رحلة بهلوان الحبل من الجيل الخامس رسول أباكاروف سائرًا فوق حبلٍ مشدودٍ عبر جبال القوقاز. وهذا واحدٌ من أعمال مخاتشيفا التي تُثير النقاش حول كيفية تَشَكُّل القيمة، وكذلك تلتمسُ مستوياتٍ متعدّدةً من التحليل متأرجحةً ما بين الشخصي (الخوف من السقوط في النسيان – أو مجرّد السقوط بعين ذاته) والمؤسسي (الانطواء في النسيان داخل المخازن – أو في بُطُون الفهارس). يَعبُرُ بَطَلُنا أباكاروف أعتاب هذه الأغوار حاملًا معه نُسَخًا من لوحاتٍ ورسوماتٍ على الورق تعود إلى القرن العشرين من متحف الفنون الجميلة بداغستان. بنفس هذه الروحية، يتأرجح الإرث الثقافي ما بعد السوفياتي من حيث تجسيد عملية بناء سرديةٍ تاريخيةٍ فنيةٍ عن ذاته، مُعلَّقًا من حبال النسيان الذي يُمَأسِسُهُ المتحف. وتساهم اعتيادية التخزين في إلقاء الضوء على الخلل الوظيفي في تاريخ الفن العالمي، وربّما أيضًا على عجز تاريخ الفن عن أن يكون عالميًا.

 

عن حرّاس القيمة

تُشَكّل مخازن المتاحف ومحتوياتها المحفوظة والمخبّأة ركنًا أساسيًا في القضايا التي تطرحها مخاتشيفا في أعمالها. وكذلك، تقع أنظمة القيمة والطرق التي تتشكّل بها في صميم هذه الأعمال. وتستجلي بذكاءٍ مدى انعدام قيمة الفن في وجه الرأسمالية النيولبرالية المتأخرة، في مقابل استعراضها للوسائل المتعدّدة التي تُحوّل بدورها التاريخ نفسه إلى قيمةٍ مُحتَكَرةٍ ومُرَكَّبةٍ ومَوسومَة. وتنتقد أعمالها الأدائية أمثال On the Benefits of Pyramids in Cultural Education, Strengthening  National Consciousness, and the Formation of Moral and Ethical Guideposts (عن فوائد الأهرام في التربية الثقافية وتعزيز الوعي الوطني وصياغة التوجيهات الأدبية والأخلاقية، 2015)[3] بالأخصّ اضطراب التراث الثقافي في مرحلة ما بعد السوفياتية وموقعه من سياسات الفن العالمي، فتجمع بين القيمة الأدائية (استكمالًا) لعملها “الحبل المشدود” وبين العمل النقدي الذي يستهدف الأنظمة المتّسقة ظاهريًا فقط مع ما يجب أن تكون عليه، وهو الذي سيقود لاحقًا إلى إنجاز عمل “اللانهاية الكمّية للهدف” الذي ذكرتُه آنفًا. يُصَدّر العمل الذي يحمل عنوان “عن فوائد الأهرام في التربية الثقافية وتعزيز الوعي الوطني وصياغة التوجيهات الأدبية والأخلاقية”، والذي عُرض في بينالي موسكو السادس للفن المعاصر وفي بينالي كييف، الحديث عن البهلوانيات التي يشعر الفنانون/ات بأنهم/ن مجبَرون/ات على القيام بها لإحراز مواقعهم/ن في سياق تاريخ الفن. تُصَوّر المنصّات المعدنية التي تضمّ النسخ المقلّدة للأعمال الفنية في كلٍ من فيلم “الحبل المشدود” والعرض الأدائي اللاحق، بشكلٍ واضح التوازنات التي تُجِيزُ لسردياتٍ تاريخيةٍ بعينها أن تُسَيطِر على الصيغة السائدة للثقافة. تنتقلُ نُسَخُ 61 عملًا فنيًا موجودًا في متحف الفنون الجميلة بداغستان من هذه المنصات إلى أيدي مؤدّين/يات بهلوانيين/ات من السيرك خلال العرض الأدائي “عن فوائد الأهرام”، فيستخدم المشاركون/ات أجسادهم/ن كبدائل للعرض. ويترك عرض تلك الأجساد في فضاء الصالة الفنية انطباعًا فكاهيًا ومأساويًا في الوقت عينه: هنا تنجح مخاتشيفا في النفاذ إلى ذلك الموضع الدقيق في وجداننا حيث تمتزج متعة مشاهدة العرض مع الارتباك حيال النقد، ما يؤكّد على تواطؤ المشاهد/سائح الفن في الحفاظ على أنظمة القيمة وتعزيزها في نطاق عالم الفن.

يَتَمَحوَرُ نقد مخاتشيفا متعدّد المستويات حول مسألة القيمة والتقييم بمختلف أشكاله الاجتماعية والثقافية والسياسية. ويشكّل النقد النسوي أحد أهم أوجه الزخم النقدي في أعمال مخاتشيفا وأقلّها تنظيرًا.

 

عن الحجاب واللباس الداخلي

يتشابك نقد مخاتشيفا لعالم الفن والدولة مع مساءلةٍ دقيقةٍ ورصينةٍ للمنظومة الأبوية، حيث تجد مخاتشيفا نفسها في محاولةٍ للموازنة بين هذه المساعي النقدية والقلق من سياسات التمثيل، وبالأخصّ تلك النابعة من التصوّرات المسبَقة والتوقّعات العالمية عن المرأة القادمة من الجنوب العالمي إلى عالم الفن الغربي. هناك، يُنتَظّر منها أن تكون “سوبر تاوس” ذات الحجاب غير المُلفِت والقوى الخارقة. ولا شكّ أنّ تَفَوُّق الآخر يُعَدّ قوّةً خارقةً تمامًا كما تبيّن المواقع المتّخيَّلة التي تتفاوض معها “سوبر تاوس”. تصرّ مخاتشيفا على التمسّك بمنظورها النقدي حيال عالم الفن، فتُسَلِّح أناها الأخرى “سوبر تاوس” بسُلطَةِ طرح الأسئلة الساذجة وتوريط الآخرين.

تستلهم “سوبر تاوس” في فيديو بعنوان Untitled 2 (بلا عنوان 2، 2016)[4] نموذج المرأة الداغستانية الصارمة بحذائها الأسود المتين وجواربها الثقيلة وفستانها الطويل المُوشّى بالأزهار، وهي تحمل على ظهرها تمثالًا لامرأتين تعتبرهنّ من بطلات عالم الفن. ينطوي هذا التمثال لماريا كوركماسوفا وخميسة عبدلييفا، عاملتا المتحف الداغستانيتان اللتان أنقذتا لوحة ألكسندر رودشينكو بعنوان Abstract Composition (تركيبٌ تجريدي) من يدي السارق في التسعينيات، كسائر أساليب الاحتفاء بالبطلات المجهولات في أعمال مخاتشيفا، على شكلٍ من أشكال التعويض. تَمضِي “سوبر تاوس” حاملةً التمثال على ظهرها في مسيرةٍ طويلةٍ بحثًا عن مكانٍ ملائم لتضعه فيه، عابرةً الطرقات والمحطّات وصولًا إلى متاحف محج قلعة وموسكو وباريس ومركز بومبيدو. وعلى غرار لاعبي/ات السيرك البهلوانيين/ات في عمل “عن فوائد الأهرام” والرياضيين/ات في “اللانهاية الكمّية للهدف”، تشعّ شخصية “سوبر تاوس” بالمرح والفكاهة المأساويين. وتعيد إلقاء الضوء على العمالة الفنية المُستَتِرة كما في العديد من أعمال مخاتشيفا الأخرى، مع إضافة عنصر النوع الاجتماعي للفت الانتباه إلى عمالة النساء بشكلٍ خاص. تجمع “سوبر تاوس” في شخصيتها وما تمثّله الزوايا المتعدّدة التي يَنظُر منها الغرب إلى النساء القوقازيات في ظلّ عددٍ من الشواغل المرتبطة بالإسلاموفوبيا والعمالة المهاجرة المستترة والأبوية وغيرها من البُنى التي تساهم في الحفاظ على هذه العناصر كمواقع قوة.

ومما لا شك فيه أن مظهر الأبوية لا يقتصر على الحذاء الأسود الثقيل. فقد تلتفّ الأبوية أحيانًا بالأثواب الحريرية، وما علينا سوى أن ننظر تحتها كي نرى البنى السلطوية التي ترتكز عليها. تلك هي الدعوة التي يوجّهها عمل Aerostatic Experience (تجربة ستاتية هوائية، 2019)[5]، وهو عبارة عن منطادٍ على شكل تنّورةٍ ترتفع عن الأرض مسافةً تكفي ليبدو للناظر وكأنها تطفو في الهواء، ما يتيح “استراق” النظر أسفلها. يشير عمل “تجربة ستاتية هوائية” مباشرة إلى تاريخ أوّل رحلة بمنطادٍ هوائي في ليون، ويزاوج تقنيّات خياطة الملابس وتكنولوجيات الطيران (المرتبطة عادةً بالذكورة) وخياطة الترقيع كنوعٍ من التوثيق للأيدي والخبرات المتداخلة والمنخرطة في هذه الصناعة. تستعين مخاتشيفا، مرّةً أخرى، في هذا العمل بالدعابة لتُجَابِهَنَا بالتاريخ الاجتماعي النقدي النسوي والماركسي في آن.

تَمزِجُ مخاتشيفا النقد بالمشهدية في مُجمَل أعمالها سواء استخدمت القماش أو المعادن أو المواد الغذائية أو الأجساد البشرية (بما فيها جسدها). ويتمتّع عملها بالقدرة على استدراجنا من خلال ما نعتبره مُتَعَنا المُحَرَّمة، لتَكشِفَ بعدها قيمةً خفيّةً ساهَمَ بحثُها في تِبيَانِها. وعلى غِرار جميع شخصيات الأبطال والبطلات والمؤدّون/يات، يتّسِمُ عملها بشيءٍ من رصانة العمل الاستقصائي وحَصَافَتِه، ما يضع ممارستها في سياق الفن ما بعد السوفياتي، وبدِقّة التوازن الذي يضمن نجاح أعمالها.

يقدّم عمل مخاتشيفا الفني عددًا من السرديات التاريخية البديلة ويكشف عن أنماط القيمة ويحتفي بالبطلات (والأبطال) العاديات/ين.

 

[1] تركيب، صوت وأداء، إنتاج مركز بينتشوك للفن، كييف، 2019.

[2] فيديو عالي الجودة، 58 دقيقة و10 ثوانٍ، ألوان، صوت، داغستان، 2015.

[3] عمل أدائي يومي عُرض في بينالي موسكو السادس وفي بينالي كييف، 2015

[4] فيديو توثيقي في 4 أجزاء:Dagestan  (داغستان)، 10 دقائق و18 ثانية؛Moscow Museum of Modern Art  (متحف موسكو للفن الحديث)، 12 دقيقة و37 ثانية؛Road to Moscow (الطريق إلى موسكو)، 5 دقائق و10 ثوانٍ؛ مركز بومبيدو، باريس، 14 دقيقة و20 ثانية، 2016.

[5] تركيب فني في بينالي ليون 15، 2019.