© حقوق النشر محفوظة للمؤلّف/ة ومتحف الفنون الجميلة في لوزان (MCBA). أُعدَّت النصوص بتكليف من MCBA في إطار المنشور بعنوان Taus Makhacheva 4’224,92cm de Degas (تاوس مخاتشيفا. 4224,92 سم² من ديغا” ed. by Nicole Schweizer, MCBA, Lausanne, 2020, Coll. Espace Projet, n°1, fr./engl، وذلك بمناسبة إقامة معرض (تاوس مخاتشيفا. 4224,92 سم² من ديغا) في MCBA، تقييم نيكول شفايزر، 13 مارس – 23 أغسطس 2020.
درجة حرارة الوقت الحاضر أو الفنان المتلوّن
فنسان فان فيلسن
“عندما تُسأل من أنت، يمكنك أن تبرز مستندًا، ليكن جواز سفرك، والذي يحوي كل ما يتعلّق بك من معلومات. وعندما يُسأل شعبٌ من يكون، يقدّم هذا الشعب، عوضًا عن جواز السفر، علماءه وكتّابه وفنانيه ووجهاءه السياسيين. يدرك الإنسان منذ نعومة أظفاره أنه جاء إلى هذا العالم ممثلًا عن شعبه، وأنه ينبغي عليه أن يهيّئ نفسه لهذا الدور.”[1]
ذات مرةٍ في بلدٍ ليس ببعيد (بلدٍ يجهل أغلب الناس موقعه على الخريطة) كانت هناك فنانة. يقع الناس أحيانًا على بطاقاتٍ بريديةٍ تُصَوِّرُ شعب هذا البلد، إلا أنه ليس واضحًا إن كانت تلك الصور تمثّل انطباعُا غرائبيًا لقريبٍ مهاجر، أم استغرابًا ذاتيًا يمارسه شعبٌ معروف بظرافته وخفة ظله تحت وطأة قرونٍ من مقاومة الإمبريالية الروسية وسيطرتها الاستعمارية. شعبٌ غامض النسب يعيش على تُخوم الخريطة مع جيرانٍ آخرين في بلادٍ تنتهي أسماؤها كلها بـ”ستان” ويصعب على الكثيرين تمييزها عن بعضها. تقطن جبالهم الخلابة وشواطئهم الترفيهية الباذخة الجِمالُ وطيور الكركي والدببة (لكن ليس من ثمّة نمورٌ هنا)، بينما توفّر شاليهات الاصطياف المنتشرة في كل مكان الراحة اللازمة في أيام العطلة. الكافيار وافرٌ هنا؛ يستخرجه صيادو سمك الحَفش بطرقٍ “غير شرعية” بواسطة قوارب متهالكة ليُستعمل كملحٍ للطعام. وهنالك المشاة على الحبال والمصارعون والبهلوانيون الذين يقدّمون الفقرات الترفيهية المتنوعة. رغم كلّ شيء، يرفض الناس هنا أي تأثيرٍ أجنبيٍ على آرائهم ومعارفهم. لذا هم قومٌ منبوذون، يخافهم الناس ويخالونهم متوحشين أو حتى إرهابيين. الخوف وليد الجهل المطبق. فالناس يخافون ما لا يفهمونه، ويكرهون ما لا يستطيعون سبيلًا لدحره، الضغينة هنا من نصيب المدينة. وقد كان لهؤلاء القوم شعراء وكتّاب وموسيقيون يروون قصص الغابرين. أما الآن، فيقع على عاتق الفنانين تسليط الضوء على سرديات الهامش. وفي أي حال، يتصرّف الآفار وغيرهم من شعوب القوقاز الشمالي بأريحيةٍ لأنهم بين أبناء جلدتهم، مع بعضهم البعض، وبالأحرى مع أنفسهم.
حراس الاستمرارية
“إن تسألينني لماذا فعلتُها، لماذا أقدمتُ على المخاطرة، فإنني أجيب بأن على الناس أن تخاطر من أجل الفن لأنه موروثُنا. ومهمٌ بلا شك بالنسبة لي أنني وقومي وعشيرتي وقريتي نواجه الآن ما تنبئ به تلك الصور. نتكلّم عن فنٍّ قد شارف على الاندثار.”[2]
قد يتشابه السرد المحكيّ والكتابة والتصوير إلى حدّ اعتبارهم الشي ذاته. فبخلاف الفرق في الوسيط المستخدَم، ينطوي كلٌ من هذه الأفعال على توثيقٍ للزمن المُعاش. فيصبح سرد القصة أشبه بتمثيل صورةٍ حيةٍ عن الحياة؛ صورةٍ تصوغ التحالفات وتبني أواصر الصلة مع الماضي وتقتفي أثره. كان المدّاح الكبير والشاعر الوطني الأول لداغستان، غمزات تساداسا (1877-1951) والمُلقّب بـ”شاعر الجبال”، يروي قصص الأقدمين ويستحضر حكاياتهم لمعاصريه. وبعدما بدأ ابنه رسول غمزاتوف (1923-2003) بكتابة تاريخ أسلافه وأصبح شاعرًا سوفياتيًا شهيرًا يجوب العالم، عاد إلى مسقط رأسه في داغستان، لا ليروي (ويكتب) عن العالم فحسب، بل وليتحدث عن شعبه (ولشعبه) أيضًا؛ ليتحدث عن تراث بلاده وما شاهده في أسفاره. وبالمقابل، عندما تنتج حفيدته تاوس مخاتشيفا (مواليد عام 1983) أعمالها الفنية، فإنها “تقيس درجة حرارة الوقت الحاضر”[3] عبر استلهام قصصٍ وسردياتٍ حقيقيةٍ ومتخيلةٍ آتيةٍ من سياقاتٍ ماضيةٍ وحاضرةٍ. في تصويرها للحياة ومجرياتها، وجدت مخاتشيفا وسيطها الفني عند أسلافها؛ وجسّدته في فهم ماهية الزائل في الفن والثابت في الحياة في داغستان وروسيا حيث يميل الناس، بحسب مخاتشيفا، إلى “هدم الموجود وإعادة إنتاجه، عوضًا عن ترميمه والحفاظ عليه.”[4] أعمالها الفنية هي بمثابة مقاومة لهذا المحو والغرور العنيف. إذ يستجيب فنها للخوف من اندثار الثقافة وتدهور الذاكرة وتدمير التاريخ في مكانٍ يشكّل الحفاظ على التراث الجضمعي تحديًا بحد ذاته – لا سيما وأن داغستان تخضع للحصار منذ قرون. وعلى غرار أجدادها، توثّق مخاتشيفا عصرها من خلال وصف داغستان طبيعةً وشعبًا، وأيضًا من خلال فهم ماهيّة وجودهم المعاصر وتقاطعاته مع مفاهيم الاعتزاز والمعرفة والأخلاق. تتولى مخاتشيفا مهمة تحويل زخم تراث شعبها (والتي هي مهمةٌ تلقّتها عن أسلافها) إلى جَمال.
كجدّها، تجوب مخاتشيفا العالم، حيث تطأ قدمها سياقاتٍ جديدةٍ ومواقف لها تواريخها وخلفياتها المتباينة، بينما قدمها الأخرى راسخةٌ في داغستان. وسواء أكان ذلك بالمعنى المجازي أو الحرفي، تربط مخاتشيفا مواقف معيَّنة من حول العالم مع داغستان وأساطيرها العديدة. وعليه، يلامس عملها الفني في بينالي البندقية الأوتار الحساسة ويقف على الديناميات الشائكة لعالم الفن وسطحية مراجعاته الصحفية، وهشاشة اقتصاده القائم على جذب الانتباه، وغموض سلطة مموليه وميل القيمين الفنيين لاستقطاب الوجوه الجديدة. على صعيدٍ آخر، تخلط مخاتشيفا هذه العناصر مع معاناة الصيادين في داغستان الذين يصارعون من أجل لقمة العيش باستزراع بيض سمك الحفش في مواجهة أمواج بحر قزوين العاصفة ومياهه الجليدية. تستعرض مخاتشيفا قدرتها الفنية عبر مزج الحديث عن الآليات المتلاطمة لعالم الفن وبينالياته مع المعاناة الخفية للحياة – والموت – في أعالي البحر قبالة سواحل داغستان.[5]
تنظر مخاتشيفا إلى ممارستها وموقعها بوصفها “فنانةٌ متلونة”: فهي تنشئ علاقةً مع محيطها أينما تذهب في “محاولةٍ لفعل شيءٍ مختلفٍ مع كل بحثٍ جديد. تنطلق أعمالي كلها من نقطةٍ واحدةٍ، كما يسري الأمر على مجمل ممارستي الفنية، والتي يمكن أن تُرى كعملٍ واحد متصلٍ.”[6] تعمل مخاتشيفا أينما تذهب على مزج بلدها في أبحاثها عن الأماكن الأخرى. وبالتالي يدور عملها في البينالي حول قنوات البندقية المائية بقدر ما يتناول بحر قزوين، وبالطريقة عينها تتناول أعمالها السابقة منطادًا هوائيًا في ليون بقدر ما تتناول البرنامج الفضائي السوفياتي،[7] وتتناول تدهور السيرك في باكو (بأذربيجان) كما في مدينة محج قلعة بالجوار،[8] وتتناول مجموعة متحف الفن الحديث بأنتويرب بقدر ما تتناول مجموعة متحف الفنون الجميلة بداغستان،[9] وكذلك تأسيس المجموعة الفنية لمتحف فان آبه بأيندهوفن كما تجميع الأعمال الفنية بمتحف الفنون الجميلة بداغستان.[10] وبالطريقة ذاتها، تتناول أعمالها قيمة مجموعة متحف الفنون الجميلة في لوزان[11] كما مجموعة متحف الفنون الجميلة بداغستان، والتي تحمل اسم جدة ماخاتشيفا، باتيمات سعيدوفنا غمزاتوفا. واقع الحال أن قصة ماريا كوركماسوفا وخميسة عبدلييفا، العاملتان في متحف الفنون الجميلة بداغستان اللتان أصبحت قصتهما أسطورة بعدما منعتا سرقة لوحة ألكسندر رودشينكو، ترتبط أيضًا ارتباطًا وثيقًا بمساحةٍ تبلغ 4224,92 سم2 والتي فُقدت في ظروف غامضةٍ من لوحة ديغا “الغسّالتان والخيول” والمحفوظة في متحف الفنون الجميلة بلوزان.
لا يبتعد مفهوم التلوّن عن وصف الكاتب والباحث الإثنوغرافي الماليّ أمادو همباطي با (1901 – 1991) للدروس المستَقاة من الكائنات القادرة على المحاكاة. وكان لهمباطي با دورٌ بارز في مالي بعد استقلالها عن فرنسا، كما كان من أشدّ المدافعين عن التراث الأفريقي الشفوي. وإليه تُنسب مقولة: “عندما يموت مسنٌّ من أفريقيا فكأنما احترقت مكتبةٌ بأكملها.”
كتب همباطي با نصًّا بعنوان L’école du caméléon (في مدرسة الحرباء) تحدّث فيه عن الغاية الثابتة من الحياة والتي يجب أن يسعى إليها المرء على الدوام. تتميز الحرباء بالتيقّظ وشدّة الملاحظة، وتؤكّد هذه النظرية قدرتها على تحريك عينيها بشكلٍ منفصل. ويذهب همباطي با إلى حد القول بأن قدرة هذا الكائن على التلوّن لا تنمّ عن “الرياء بمعنى الوصولية” وإنما عن “الانفتاح وحسن التقدير.”[12] إذًا لا يرتبط الأمر بالصراع بل بالفهم والتقبل، “فالتفاهم واجبٌ بالغ الأهمية.” ويسود الاعتقاد أن الحرباء تُبَدِّلُ لون جلدها على سبيل التمويه، ولكن ذلك ليس سوى جزء من الحقيقة. فالتلوّن ينطوي على دلالاتٍ إجتماعيةٍ وينتج عن التفاعل مع الحرارة وغيرها من الظروف المحيطة. ويمكن ربط هذه النظرية بالتعبير المجازي الذي يصف أعمال مخاتشيفا كقياس “لحرارة ظروف الوقت الحاضر.”
لا يكمُن القاسم المشترك بين أعمال مخاتشيفا في “التساؤل حول ماهية (أو مكان) الشيء. فأعمالها تتناول الموضوع ذاته؛ حيثية شيءٍ أو شخصٍ غيرُ ممثلٍ بشكلٍ كاف،” بقدر ما تتّصل بالسؤال الجوهري حول “كيفية الجهر بهذا الصوت غير المُمَثل وجَعل همسِهِ مسموعًا.”[13] ومن ثم، تستهدف مخاتشيفا بناء سردٍ مغايرٍ للأقليات المختلفة التي تحيا في الظل. على سبيل المثال، عادةً ما ننظر للصيادين في فيلم Baida (بايدا) كإرهابيين بيولوجيين، تمامًا كما نرى مصارعة الكلاب في Let Me Be Part of a Narrative (دعني أكون جزءًا من سرديةٍ ما، 2015) كشكلٍ لا إنساني من أشكال تعذيب الحيوانات. ولكن عند النظر المتعمّق في الأمر ورسم أوجه التشابه بين السياقات المختلفة، فإن العلاقات بين مختلف الأشخاص وأفعالهم تجعل ما يحدث في أماكن مختلفة مقبولًا للآخرين. فالظواهر المختلفة قد تمتلك نفس المنطلقات والتداعيات. وعليه، تُحَلِّلُ مخاتشيفا موقفًا معينًا تتكيف فيه باستمرار مع البيئات الجديدة.
على مهلٍ وروية وباتّساق، تُحَلِّلُ مخاتشيفا وتتفاعل مع السياقات المختلفة، فتترك أعمالها الفنية “أثرًا دائمًا”[14] عبر التعاون الصبور والملاحظات الدقيقة. وتستخدم المعرفة التي جَمَعَتها لخلق قصصٍ حقيقيةٍ ومُتَخَيَّلةٍ سهلةٍ ومُمتَنَعةٍ في الوقت ذاته لدى جغرافياتٍ وجماهير مختلفة. كما تُظهَر مخاتشيفا كذلك أوجه الشبه بين أطرٍ معرفيةٍ وتشغيليةٍ معينةٍ، وكيفية تَمَحوُر هذه الآليات حول “الآخر” بقدر ما تَتَمَحوَرُ حولنا.
[1] Rasul Gamzatov, https://russiapedia.rt.com/prominentrussians/literature/rasulgamzatov, تاريخ زيارة الموقع 24 كانون الأول/ديسمبر 2019.
[2] مقابلة شخصية بين تاوس مخاتشيفا والبهلوان رسول أباكاروف في Tightrope, edited by Vladislav Shapovalov, Mousse Publishing, Milan, 2017, p. 51.
[3] مقابلة شخصية بين تاوس مخاتشيفا ونيكول شفايتزر في 24 نيسان/أبريل 2018.
[4] مقابلة شخصية بين تاوس مخاتشيفا والكاتب في 22 تشرين الأول/أكتوبر 2019.
[5] Baida (بايدا)، فيديو أدائي، الدورة 57 من بينالي البندقية، 2017.
(https://vimeo.com/216666177)
[6] من مقابلة شخصية بين الفنانة والكاتب في 22 تشرين الأول/أكتوبر 2019.
[7] Aerostatic Experience “تجربة هوائية ستاتية”، تركيب فني (صلب وخشب وقطن)، الدورة الخامسة عشرة من بينالي ليون، 2019.
[8] CHARIVARI (شاري فاري)، معرض فردي في مؤسسة يارات للفن المعاصر بمدينة باكو، أذربيجان، 2019.
[9] Way of an Object (طريقة الشيء)، عرض مسرحي مع ثلاث أشياء تشبه الدُمى: أسوارة زواج كوباتشي ومملحة منحوتة من الخشب ولوحة للفنان الروسي فيكتور فازنتسوف، متحف الفن الحديث بأنتويرب.
[10] Tightrope(الحبل المشدود)، فيديو ملون عالي الجودة، 58 دقيقة و10 ثواني، داغستان، إنتاج 2015، من معرض فردي في متحف فان آبه، 2018.
[11] 4’224,92 cm2 de Degas(4224,92 سم2)، معرض فردسي بمتحف الفنون الجميلة بلوازن، 2020.
[12] يشكر المؤلّف كلًا من كريمة بودو ورينيه أكيتيليك مبويا وأود كريستل مغبا للفت انتباهه إلى أقوال همباطي با في فيلمهن L’école du caméléon الذي عُرض في الدورة 12 من مهرجان لقاءات بماكو، البينالي الإفريقي للفوتوغرافيا، 2019. أيضًا، يرجى مراجعة Amadou Hampâté Bâ, L’école du caméléon، تفريغ لتسجيل حي، غير مُؤرَّخ. (https://www.youtube.com/watch?v=84KEpkpDmNQ)
[13] مقابلة شخصية بين تاوس مخاتشيفا والكاتب في 22 تشرين الأول/أكتوبر 2019.
[14] المصدر نفسه.